
أماني محمد فريد
العمال هم سواعد الوطن، هكذا تعلمنا في حصص القراءة، وهم رجال كاشفون عن سواعد مفتولة العضلات ومن خلفهم ترس ومدخنة مصنع، هكذا رسمناهم في حصص الرسم وعلى جدران المدارس، وأغانيهم دائمًا مرحة وتحفز على العمل، كالتي تذاع في عيد العمال، لكن في الحقيقة أغاني العمال ليست كلها مرحة، فلأغاني العمال الشعبية بعد أعمق من ذلك بكثير. في مطلع القرن العشرين كانت ظروف العمل صعبة وطاحنة لأقصى حد، وكان على العمال العمل لساعات طويلة دون راحة ومن يتغيب يوم لا يعود للعمل ثانية فضلًا عن ظروف العمل الخطرة، وليس هناك أدل على هذه الظروف اللإنسانية من حريق شركة “شيرتويست” الذي اندلع في نييورك عام 1911، وتوفي على أثره123 عاملة أغلبهم من النساء المهاجرات الإيطاليات واليهود، و23 عامل من الرجال،ففي محاولة العمال الهروب من حريق نشب في الدورين الثامن والتاسع من المبنى، وجد العمال أبواب المصنع مقفلة من قبل رب العمل وهي ممارسة شائعة آنذاك لمنع العمال من الاستراحة غير المأذون بها وللحد من السرقة، ومات العمال إما حرقًا أو بسبب القفز من النوافذ.وإثر هذا الحادث الكارثي نظم إتحاد عمال الملابس النسائية الدولي ورابطة النقابة النسائية مسيرة صامته من 120000 شخص من فئات مختلفة تكريمًا لهؤلاء الضحايا، فضلًا عن الاجتماعات وتنظيم احتجاجات من أجل تحسين ظروف العمل للعاملين في مجال صناعة الملابس وتطبيق معايير السلامة، وعلى ضوء هذا الحادث قالت روز سنيدرمان في خطبة ألقتها جملتها الملهمة “العاملات يردن الخبز، ولكنهم أيضًا يردن الورد”.أستعانت النقابات والإتحادات العمالية بالموسيقى والأغاني الإحتجاجية لحشد العمال غير النقابيين للانضمام إلى صفوف النقابات، ولعل إتحاد العمال الصناعيين في العالم “IWW”هو أكثر الإتحادات استخدامًا للموسيقى والأغاني حيث كان العديد من منظمي منظمة العمال الصناعيين في وقت مبكر كتاب أو موسيقيين أو رساميين وغالبا ما يكون لديهم جميع هذه الملكات، مثلجو هيل وودي غوثري، اللذين كتبا أغاني من شأنها تحفيز المستمعين وإيجاد رابط مشترك بينهم.
صاحبت الأغاني الاحتجاجية جميع الإضرابات العمالية في العالم كله، ففي أوربا نظم الشاعر الفرنسي أوجين بوتييه أغنية “الأممية” “L’Internationale” عام 1871وهو نشيد يساري، وكان رمزًا للحركة الإشتراكية في أواخر القرن التاسع عشر عندما تبنته المنظمة الدولية الثانية (الاشتراكية الدولية الآن) كنشيد رسمي لها،سمي النشيد بهذا الاسم نسبة إلى “الدولية الأولى”، وهو تحالف من العمال أنشأ عام 1864. هذا النشيد يعتبر أقدم وأهم أغاني العمال الاحتجاجية حيث ترجم لعدة لغات لمائة لغة، وحد هذا النشيد الشيوعيين والاشتراكيين واللاسلطويين والاشتراكيين الديمقراطيين والديمقراطيين الإشتراكيين من مختلف الجنسيات. كما استخدمه الجمهوريون خلال الحرب الأهلية الإسبانية، وكانت ترجمه نشيد “الأممية” هي النشيد الوطني للإتحاد السوفيتي منذ عام 1917 وحتى 1944. صحيح أن خذا النشيد في الأصل يعبر عن العمال ويحسهم على الثورة والتمرد على استغلال، ولكن هذا النشيد استخدم في الإحتجاجات الاجتماعية والسياسية أيضًا مثل مقاومة السياسة الديكتاتورية لستالين في الإتحاد السوفيتي.
وفي أمريكا تعتبر أغنية (Bread and Roses) (خبز وورد) من أبرز أغاني العمال الإحتجاجية التي كتبها جيمس أوبنهايم ونشرت أول مرة في (The American Magazine) عام 1911، استوحى أوبنهايم كلمات هذه الأغنية من خطابللمناهضة النسائية والعمالية روز شنايدرمان، والذي فيه وقفت العاملات ما بين حاملات لقطع خبز يابس وورد وبين حاملات ليفط كتب عليها “نريد الخبز، ولكننا نريد الورود أيضا!” مردتات أغنية “خبز وورد” التي تشبه في لحنها الترانيم الجنائزية.
وأغنية (John Golden and the Lawrence Strike) (جون جولدن وإضراب لورانس) التي غناها جو هيل ضد جون جولدن رئيس عمال النسيج المتحدة الذي سافر إلى لورانس سعيًا للتأثير على إتحاد العمال المركزي وعلى عمال النسيج، ومن أجل أن يضمن السيطرة على الإضراب والحفاظ على رجاله من العمال المهرة من الإنضمام إلى الإضراب. ونقلت صحيفة “سوليدرتي” عن غولدن قوله “يجب علينا منع ما يسمى بقادة الإضراب العمالي، المدافعين عن حقوق الإنسان، من السيطرة على الوضع”، هتان الأغنيتان أرتبطتان بإضراب عمال لورنس عام 1912، ويعود السبب في هذا الإضراب إلى تلقي العمال المهاجرين في مصانع النسيج في لورانس أجورتكاد لا تكفي لحياة آديمة، وكانت الظروف الصحية والمعيشية مؤسفة جدا، حيث أكد طبيب محلي أن ستة وثلاثين من كل مائة رجل وأمرأة يعملون في المطاحن ماتوا قبل سن من خمسة وعشرين، وفضلا عن التمييز بين العمال المهرة أو العمال الألمان والإنجليز والعمال المهاجرين من حيث الأجور والسكن،وفي 1 يناير 1912صدر عن الهيئة التشريعية في ولاية ماساتشوستس قانون بتقليل ساعات العمل من ستة وخمسين إلى أربع وخمسين ساعة للنساء والأطفال،وقد أضرب العمال قام أصحاب المصانع بخفض الأجور بالتزامن مع إصدار هذا القانون، وفي خلال أيام تم تشكيل لجنة إضراب من 56 شخصا وممثلين عن أربعة عشر جنسية بقيادة جوزيف إيتور من إتحاد العمال الصناعين في العالم، وخرجت هذه اللجنة بعدد طلبات تم ترجمتها إلى خمسة وعشرون لغة من هذه الطلبات عدد ساعات العمل 54 ساعة في الأسبوع زيادة الأجور 15%، ردد الحكومة على هذا الإضراب بدق جرس الإنذار في المدينة ونشر ملشيات في الشوارع في مواجهة العمال كما قامت بسلسلة من الإعتقالات، وصل الأمر إلى أن الشرطة احتجزت 100 طفل وأمهاتهم بطريقة وحشية، وبعد هذا الحدث تحرك الرأي العام وتعاطف مع العاملات المحتجزات، تطور إضراب لورانس إلى كفاح منظم يتراوح بين 000 20 و 000 25 عامل متحدين في المطالبة بزيادة الأجور وتحسين ظروف العمل. وقد أتاح الإضراب لعمال لورانس الفرصة الأولى لمعالجة المظالم. “كان إضراب لورانس ثورة اجتماعية” . تم تسوية الاضراب يوم 14 مارس 1912 بشروط عامة لصالح العمال. وفاز العمال بزيادات في الأجور، ودفع وقت وربع مقابل العمل الإضافي، ووعد بعدم التمييز ضد المضربين.
“في أي جانب أنت؟” “Which Side are you on?” أغنية كتبتها الناشطة الإجتماعية والشاعرة فلورانسا ريس عام 1931، بعد أن أقتحم منزلها ونهبواعتقل زوجها سام ريس الذي كان من أبرز منظمي الإحتجاجات العمالية في مناجم الفحم في مقاطعة هارلان، فغضبت فلورانسا وكتبت هذه الأغنية على ظهر ورقة تقويم، وغنتها بنفسها في عدة أماكن حتى أصبحت هذه الأغنية أيكونة لإضرابات المناجم في هذه الفترة وحتى في الموجة الثانية لإضرابات المناجم عام 1973. لم تكن فلورانسا وحدها من ألهمتها حرب هارلان الدامية فهاهي العمة مولي جاكسون تغني مع عمال مناجم الفحم في هارلان أغاني إحتجاجية قامت بكتابتها بنفسها، وقامت هي وشقيقها الأصغر جيم غارلاند و شقيقتها سارة أوغان غانينغ جير بجولة في 38 ولاية لجمع الأموال للمضربين، رافق العمة مولي في رحلتها لجمع الأموال وتعريف الرأي العام بالإنتهاكات التي تمراس ضد العمال في هارلان مجموعة من إتحاد العمال الصناعين في العالم ودي غوثري وبيت سيجر و إيرل روبنسون وهم أيضًا ممن غنوا أغاني إحتجاج.
حرب مقاطعة هارلان هي قصة لمئة وثمانين أسرة أجهدتها ضعف الدخل وعدم توافر رعاية صحية والعمل في ظروف خطرة، حيث توفي حوال 300 عامل في حوادث التعدين بسبب استخدام الديناميت، وباقي العمال ما بين مصاب ومهدد بالإصابة بمرض الرئة السوداء وهو أيضا مرض قاتل، وعلى أثر تلك الأوضاع خرج عمال المناجم للإحتجاج والمطالبة بتحسين الأجور ومنع استخدام الديناميت في المناجم، استمرت هذه المواجهات في الفترة من 1931 إلى 1939، وعرفت باسم “حرب هارلان” أو “هارلان الديموية”، وسميت هكذا من فرط العنف الذي بذلته السلطة وشركة أصحاب المناجم ضد عمال مناجم الفحم.
أما أغاني الإحتجاج العمال في العالم العربي، تعتبر مصر هي البلد العربي الوحيد التي لديها تراث من أغاني الإحتجاج العمالية، نظرًا لأنها كانت أكبر بلد صناعي في العالم العربي تحديدًا في النصف الأول من القرن العشرين، ومن أغاني الإحتجاج العمالية أغنية سيد درويش “مقلتلكش إن الكترة” للكاتب بديع خيري، وفيها يقوم بالرد على الشاعر أحمد شوقي الذي كتب قصيدة يلوم فيها عمال الترام والسكك الحديدية وعمال شركة قناة السويسالذين قاموا بعمل إضراب على نطاق واسع ولسيد درويش أيضًا أغنية “شد الحزام”، يعتبر أحمد فؤاد نجم هم أصدق من كتب عن العمال والفلاحين والطبقات الكادحة لأنه هو نفسه أشتغل عامل في معسكرات الجيش الإنجليزي ثم في البريد ومن بعده النقل المكانيكي، وفي عام 1956 قبض عليه مع أربعة من زملائه العمال بتهمة التحريض على الشغب وفي قسم الوايلي توفي أحد زملائه بسبب الضرب،لم يفرق أحمد فؤاد نجم في أشعاره الإحتجاجية بين العمال والفلاحين وبين الطلبه فهو دائمًا يراهم القوة القادرة على تغير المجتمع، ومن أهم أشعاره “شيد قصورك” التي غناها رفيقه في النضال الشيخ إمام.
هناك العديد من أشعار العمال الإحتجاجية ظلت مكتوبة فقط دون لحن مثل قصيدة صلاح جاهين “أبو زعبل” التي كتبها بعد القذف الإسرائيلي لمصنع أبو زعبل للصناعات الكيميائية عام 1956، وأسفر هذا القصف عن وفاة 70 عامل مصري، أما عبد الرحمن الأبنودي فكتب “خطابات الأوسطى جراجي القط” وهي عبارة عن مراسلات بين أحد عمال السخرة في حفر قناة السويس وزوجته يصف لها معانة السخرة وتصف له ضيق الحال.
أثبتت الإضرابات العمالية أن الإصرار والاستماته في سبيل أخذ الحقوق هو السبب الأساسي في نجاح إضرابات وثورات العمال، بينما كانت الأغاني الإحتجاجية في أي نضال عمالي هي أداو لتوحيد صفوف العمال وتشجيعهم على الإنضمام والمشاركة، ولعل السبب في قوة التأثير في هذا النوع من الأغانب هو أن من كتب الكلمات ومن غناها عامل يعيش نفس الظروف ويحس نفس المشاعر، وما أن يقوم أحدهم بالغناء أو الإلقاء حتى يتم التقاعل من قبل جمهور العمال الذين يعيشون نفس التجربة. تعتبرأغاني الإحتجاج هي أصدق أداة توثيقية لتاريخ الأمم وستظل هي لسان حال كل فئة مقهورة ومغلوبة على أمرها.
No Responses to “حين يحتج العمال غناءً”