
أماني محمد فريد
” كنت طالبا في الدكتوراه في غوتنغن عندما جاءت للغناء، وذهبت إلى قلوبنا، وكانت بداية صداقة رائعة بين البلدين ” قال المستشار الألماني كلمته هذه بمناسبة مرور أربعين عامًا على معاهدة الإليزية للمصالحة بين فرنسا وألمانيا، فمنذ أكثر من خمسين عاما في فترة الحرب بين فرنسا وألمانيا، كتبت باربرا، وهي مغنية فرنسية من أصل يهودي، أغنية “Goettingen” أو “غوتنغن” وهي مدينة ألمانية عاشت فيها فترة فأحبتها وتأثرت بها، ولم يتوقع أحد أن تغير هذه الأغنية العقول والسياسات وتذيب ككف الغناء ليس فقط للترفيه والتسلية، بل هو ذو قدرة على تغير العقول والسياسات. ولهذا وجدت أغاني الاحتجاج بشكل أساسي في الثورات والاحتجاجات ضد السلطات والأنظمة الفاشلة.
وعلى عكس أغاني الاحتجاج التي تعبر عن مطالب فئة معينه، مثل العمال أو الأقليات التي تهدف إلى الحشد، نجد أن أغاني الاحتجاج السياسة ليست فقط للاستمالة أو الحشد، ولكنها أيضًا قادرة على التغيير سواء على المستوى المحلي أو العالمي.
ارتبطت أغاني الاحتجاج بالاضطرابات الاجتماعية والسياسية، للتعبير عن السخط والتمرد، وهي تهدف في الأساس إلى رفع درجة الوعي لدعم قضية أو لبث شكوى أو للمطالبة بحقوق، هي غير ملتزمة بترسيم الحدود الدولية، وليست حبيسة بين خطوط الطول والعرض، فمن الممكن أن تحمل الأغنية رسالة تضامن مع الآخر من غير المنتمي لنفس العرق أو البلد، مثلًا نحن نعرف الآن ويلسون مانديلا كرمز للكفاح ضد الفصل العنصري الذي أتبعه الحزب الوطني عند تسلمه السلطة عام 1948 في جنوب أفريقيا، ولكن في الحقيقة أنه طوال فترة الخمسينات وحتى الثمانيات من القرن الماضي كانت الفكرة السائدة عنه أنه مشاغب ومخرب، وفى عام 1964 حكم عليه بالسجن مدى الحياة مع وزعماء آخرين بالحزب الوطني، قضى مانديلا 27 عاما في زنزانة، وتغيرت هذه الفكرة الخاطئة حول منديلا حين غنت فرقة سكا – بانك الإنجليزية متعددة الأعراق، التي أعيدت تسميتها لاحقا “أكا” أغنية “Free Nelson Mandela” أو “نيلسون مانديلا الحر” عام 1984، فقد أسهمت هذه الأغنية إلى حد كبير في نشر القضية التي ناضل من أجلها مانديلا على مستوى العالم، خاصة بعد أن قام دامرس وفرقة سيمبل ميندس بتنظيم حفلة عيد ميلاد نيلسون مانديلا السبعين في ملعب ويمبلي بلندن عام 1988 وغنى فيها أغنيته “نيلسون مانديلا الحر”، شهد هذا الحدث عبر التلفاز أكثر من 600 مليون مشاهد، وأسهم هذا الحدث في تغيير الصورة الخاطئة لمانديلا حول العالم، يقول جامباشيني، وهو مقدم في محطة إذاعة بي بي سي البريطانية عن هذه الأغنية “لقد قاموا بتثقيف الناس حول الفصل العنصري لأنهم بالتأكيد لم يعرفوا مانديلا من المصادر التقليدية. فكل ما يقال عنه في وسائل الإعلام سيئ للغاية، لذلك كان الأمر متروك للموسيقيين للقيام بدور قيادي في إعادة تأهيل سمعته”، وأضاف بول غامباتشيني “الأغنية كانت فعالة في تثقيف الناس حول مانديلا، الذي كانت سمعته منخفضة في الغرب في ذلك الوقت”، ونظرًا لهذا الانتشار الذي حققته أغنية “نيلسون مانديلا الحر” والتي جعلت المجتمع الدولي يتضامن مع نيلسون مانديلا، أجرت حكومة جنوب أفريقيا محادثات سرية مع مانديلا، وأنهت هذه المحادثات بإطلاق سراحه في 11 فبراير 1990.
كانت فترة الستنات حقبة خصبة لأغاني الاحتجاج، بسبب صعود حركة الحقوق المدنية، وظهور حركات الثقافة المضادة مثل “الهيبييز”، وهي حركة مناهضة للرأسمالية ظهرت بين طلاب بعض الجامعات في الولايات المتحدة، كظاهرة احتجاج وتمرد على قيادة الكبار ومظاهر المادية والنفعية وثقافة الاستهلاك، وظهور اليسار الجديد، وتصعيد الحرب في فيتنام، ومن أبرز أغاني هذه الفترة “Feel Like I’m Fixing To Die Rag” لكونتري جو – وذا فيش، وهي أغنية مناهضة لحرب فيتنام، تستهزئ من أن القادة والحكام يصورونها على أنها مكسب وضرورة، في حين أن الجميع في هذه الحرب ميت، ويقولون مستهزئين “أرسلوا أولادكم إلى فيتنام قبل فوات الأوان، ليرجعوا إليكم في صناديق”.
من الحركات الاحتجاجية الهامة والتي كانت السبب في أنتاج سيل من أغاني الاحتجاج، مناهضة حرب فيتنام، مثل “What Are You Fighting For” “Eve Of Destruction” “Waist Deep in the Big Muddy “، من أهم هذه الأغاني وأكثرها انتشارا على الإطلاق أغنية “Masters of War” ” سادة الحرب” لبوب ديلان، يوجه ديلان هذه الأغنية على الجالسين وراء الجدران ووراء مكاتبهم، بينما يرسلون غيرهم للموت في الحرب.
تعد ثورة الشباب في فرنسا عام 1968 من الثورات المهمة في تاريخ العالم، وهي عبارة عن انتفاضة شبابية ضد المجتمع الفرنسي وسياسة القمع لحكومة الجنرال ديغول الذي قيد الحريات وضيق على المفكرين وأهل الأدب والسياسة بحجة الأمن وحماية الجمهورية ومبادئها، وعلى مستوى العلاقات الخارجية كانت الأوضاع في الجزائر وما شهدته من مجازر قبل منحها استقلالها عام 1962 وعودة مليوني فرنسي كانوا يعيشون فيها، فضلًا عن الركود الاقتصادي وانخفاض مستوى المعيشة، كل خذا أجج من سخط الرأي العام، وفشلت الدولة في إسكات المفكرين أو الصحافة. ومن أهم أغاني الثورة الطلابية “Paris Mai”لكلود نوغارو، وغنى عن أعمال الشغب في باريس ستون روسى ” Bye Bye Badman “ أو “وداعًا بدمان”
هذه بعض من أهم الأغاني السياسية فالقائمة مليئة وتزال هناك أغاني ستضاف، فمثلا الانتخابات الأمريكية وما إثارته من سجال بسبب ترشيح أكثر الشخصيات إثارة للجدل في أمريكا هيلاري كلينتون وترامب، وهذا الأخير أثارت تصريحاته العنصرية غضب المجتمع الأمريكي والعالم كله، وظهرت حملات مناهضة لترامب، ومن هذه الحملات المناهضة لترامب حملة 30 days” 30 songs” وتهدف هذه الحملة إلى إصدار أغنية مناهضة لترامب كل يوم ولمدة ثلاثين يوما حتى إعلان نتيجة الانتخابات، صدرت أول أغنية لهذه الحملة في أكتوبر 2016 أغنية ” Death Cab for Cutie” التي تم الإعلان عن صدورها في شهر أكتوبر 2016 كأول أغنية مناهضة لترامب ضمن هذه الحملة. وهناك أيضًا حركة “ًWomen’s march” أو “نساء مارس”، اللائي نظمن مسيرة نسائية بعد يوم واحد من تولي ترامب الحكم احتجاجاً على ترامب وعلى تصريحاته العنصرية وللتأكيد على أن حقوق المرأة هي حقوق الإنسان، وقد أعلن عن تلك المسيرة مسبقًا عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ولاقت دعواهم هذه إقبالًا غير مسبق في تاريخ أمريكا، حيث شاركت في تلك المسيرة مئات الآلاف من النساء في واشنطن وفي ولايات أمريكية أخرى، بالإضافة إلى مسيرات نسائية أخرى حول العالم للتضامن مع تلك المسيرة، وفي هذه المسيرة كانت أغنية “Can’t Keep quit” التي كتبتها وغنتها كوني وليم، مصدر إلهام لحملة أخرى أخذت نفس عنوان الأغنية نفسه “لا يمكن أن أبقى صامتًا”، وتهدف هذه الحملة كما هو مدون في موقعم الإلكتروني “الاحتفاء بأصواتنا وهوياتنا الفريدة، لكسر سلسلة القمع والخوف، المستمرة من قبل وسائل الإعلام اليوم. “
كما أن قدر على شعوب العالم أن يعانوا من الأنظمة الفاشلة والديكتاتورية، قدر أيضًا على كل نظام فاشل وديكتاتوري أن يخرج عليه الناس ليحتجوا، وفي كل احتجاج تولد أغاني يرددها ويغنيها حشد المتظاهرين أو المحتجين كرسالة منهم إلى حكامهم تضمن مطالبهم وتظلمهم وفي نفس الوقت لتنذرهم بأن صبرنا قد أوشك على النفاذ. يعتبر العالم العربي يعتبر من أكثر الشعوب إنتاجًا لأغاني الاحتجاج السياسية خصوصًا في فترة ثورات الربيع العربي، وكما عرضنا بعضًا من أبرز الأغاني السياسية في العالم الغربي، سنعرض في المقال القادم أهم الأغاني السياسية في الوطن العربي وأفريقيا.
No Responses to “الأغنية السياسية … الغناء من أجل التغيير”