
يوسف بحر الدين
استطاع زكريا أن يصل أخيرًا إلى مقدمة الزحام، أصبحت سنتيمترات معدودة تفصل بينه وبين بوابات مُجمع التحرير، هكذا تزداد فرصته في إنهاء إجراءات تجديد الإقامة قبل منتصف الظهيرة، موعد انطلاق الحافلة التي تقله يوميًا إلى عمله بمدينة السادس من أكتوبر، وهذه هي المرة الثالثة التي يأتِ فيها إلى المُجمع ويضطر إلى الرحيل قبل أن ينهي ما أتى من أجله.
يتجمع الكثير من الأجانب والمصريين كل يوم وقبل دقائق من موعد بدء العمل بالمُجمع حتى يتثنى لهم إنهاء إجراءات بيروقراطية، بعضها لا يمكن إنهاؤه إلا في أحد طوابق هذا المبنى الضخم الذي يطل على أكبر ميادين القاهرة وأكثرهم شهرة؛ نظرًا لما شهده من أحداث هامة إبان ثورة الخامس والعشرين من يناير قبل سبعة أعوام.
اليوم هو الثاني والعشرون من يناير، حالة الاستنفار الأمني في ذروتها استعدادًا لذكرى الثورة، و بين رجال أمن المُجمع ذوي القمصان الزرقاء يقف شرطيون بملابس مدنية؛ تستطيع في مصر تمييز رجال الشرطة بسهولة ولو اعتمروا قبعات الكاوبوي. تُفتح البوابات وتندفع كومات اللحم إلى داخل المبنى، ويبدأ رجال الأمن في محاولة لإيقافهم، ترتفع الهراوات ثم تسقط على رؤوس المتدافعين إلى الداخل بدون سابق إنذار.
جوزيف، أصيب هو الآخر جراء سقوط إحدى الهراوات على رأسه، يعمل منذ أن قدم من نيجيريا بمدرسة للاجئين الأفارقة بحدائق المعادي، نصحه باتريك، مدير المدرسة الكندي الجنسية، بالذهاب مبكرًا هذه المرة، فعلى عكس جوزيف وباقي العاملين بالمدرسة استطاع باتريك هو وزوجته تجديد إقامتيهما في أقل من ساعة، صحيح أن هذه المرة لم يمنحوهما سوى ثلاثة أشهر، لكن ساعة واحدة انتظراها بعد استيفاء الأوراق المطلوبة كانت كافية، ربما كانت ثلاثة أشهر فقط هذه المرة لأنهما اعتادا التردد على الأقسام لإخراج العاملين بالمدرسة؛ الذين يصادف حظهم العاثر أحد أكمنة الشرطة بجوازات سفر ذات إقامات منتهية، حكى لي باتريك ذات مرة أنه اضطر للتهديد بالاعتصام داخل القسم حتى يفرجوا عن مُدرسة تعمل معه، وأنهم قبلوا إخراج المُدرسة المحتجزة بعد أن وعدهم بإنهاء إجراءات الإقامة لها، لكن تنفيذ هذا الوعد لم يكن أبدًا بهذه السهولة، فبالنسبة للاجئين يعرف الجميع ما هي الإجراءات و تساعد الوكالات الدولية دائمًا في إنهاء أوراقهم، أما العاملين فموقفهم يتوقف على قرار رجل أمن أو موظف حكومي.
كان زكريا قد جاء إلى القاهرة هربًا من الكونغو قبل عشرة أعوام، فبالرغم من انتهاء الحرب في 2003 إلا أن شبح التطهير العرقي ظل يطارده، رحل قبل أن يلقى مصير والده الذي ذُبح داخل منزله قبل انتهاء الحرب بأيام، وبعد وصوله بفترة قصيرة سهلت له لغته الفرنسية العثور على عملًا بإحدى شركات خدمة العملاء الناشئة، ورفض الانتقال إلى دولة أخرى كلاجئ مثلما فعلت شقيقته، التي غادرت بعد شهور قليلة هربًا من تندر المارة على هذا الجرح الواضح الذي يحيط برقبتها والذي كان من المقدر له يومًا قتلها. أخبرني زكريا أنه بالرغم من حصوله سريعًا على ترقية في البداية إلا أنه ظل سبع سنوات يرى من كانوا يتدربون على يديه يترقون، فالإدارة كانت تخشى دائمًا أن ينفر الموظفون من العمل تحت إمرة مدير أفريقي.
يعتبر مجمع التحرير من أهم الأماكن التي تصطدم فيها بشكل مباشر مع الدولة المصرية، ليس فقط على المستوى البيروقراطي، لكن أيضًا على المستوى الإداري والسياسي؛ تستطيع بسهولة أن تتعرف على سياسات الدولة تجاه أي فئة من دراسة الإجراءات التي تسنها الحكومة تجاه هذه الفئة، بل وتعامل رجال الأمن والموظفون، أيضًا الإشاعات والنكات التي يطلقونها على كل فئة.
كانت كتل اللحم المندفعة إلى داخل المجمع تتكون من أعراق وجنسيات مختلفة، غالب الأفارقة نساء يعملن كخادمات، اعتدن على التحرش بهن في كل مكان، فلن يقف أحد ليدافع عنهن، بل إذا على صوت إحداهن ستضطر إلى مواجهة كل المدافعين عن المتحرش البريء الذي بالتأكيد لن ينظر إلى هذه “السوداء القبيحة”، وفي أفضل الأحوال لن تتلقى سوى السباب والتذكير بأنه يجب عليها العودة إلى بلادها، أما الشرطة فتعني لها الترحيل، حتى وإن كانت تحمل إقامة سارية، لكن في عقر دار الدولة المصرية فلا تتمنى إحداهن أكثر من أن تخرج بدون أن تمتد يد أحد داخل ملابسها.
إن كنت أوروبيًا أو أمريكيًا فالإجراء المتبع هو أن يتم تعيينك تحت مسمى “خبير أجنبي”، حتى يتثنى لك الحصول على راتب أعلى وضرائب أقل، أما إن كنت أفريقيًا أو أسيويًا أو عربيًا فهذا غير مقبول أمام السلطات المصرية، فتقوم الشركات بتوظيفك عن طريق شركة توظيف أخرى تقوم باقتطاع جزء كبير من راتبك، قد يصل في بعض الأحيان إلى نصفه، صديقي ذو الجنسية المزدوجة استطاع الحصول على ضعف الراتب عندما تقدم لنفس الوظيفة بجواز سفره الأجنبي.
في أثناء حديثنا ارتفعت عينا زكريا إلى زاوية الغرفة وصمت قليلًا، ثم بدأ يسرد واقعة اقتياده إلى قسم الشرطة وكيف أنه، وبالرغم من وجود إقامة سارية على جواز سفره، تم إيداعه بالحبس لمدة ثلاثة أيام لأنه لم يكن يتحدث اللغة العربية، ولم يستطع الإجابة على أسئلة رجال الشرطة بالكمين، قال أنه استنتج أنهم يسألون عن مكان عمله فظل يردد اسم الشركة التي يعمل بها، لكنهم لم يفهموا ماذا يعني، ثم أكمل حديثه متهكمًا: “ربما ظنوا أنني أسبهم!”، عندما سألته إن كان تعرض لأي أذى جسدي قال أنه لم يتعرض سوى إلى الضرب المعتاد، هذا النوع من الضرب الذي لا يهدف إلى شيء إلا فقط أن يثبتوا أنهم في مكانة أعلى تسمح لهم بضربك. لم يسمحوا له بالاتصال بأحد، ولم يخاطبوا سفارته بالقاهرة، ظلوا محتجزينه إلى أن جاء مديره بعد ثلاثة أيام يبحث عنه.
أتذكر الآن ما كتبته مدونة مصرية منذ ثلاثة أعوام عن تحرش أمين شرطة بها داخل المُجمع أثناء مصاحبتها لزوجها الأجنبي لتجديد إقامته، وكيف برر أمين الشرطة فعلته بأنه كان يظنها سورية، وكأن التحرش بسورية فعل مصرح له به.
استجمعت كل هذه الروايات والأحداث يوم رأيت الهراوات ترتفع وتسقط بلا هوادة لكن بانتقاء واضح لمن تسقط على رؤوسهم، كيف أن هذا الانتقاء ممنهج؛ يبدأ منذ وصولهم إلى المطار، ورحلتهم في محاولة إيجاد عمل وسكن، واحتكاك الشرطة بهم طوال الوقت، الإشاعات وخطابات الكراهية التي يبثها المصريون طوال الوقت تجاه السوريين وغيرهم، وكيف أن المصريين يشعرون بدنو هذه الأعراق عنهم في حين يشعرون هم أنفسهم بنفس الدنو أمام الجنسيات الأوروبية أو الأمريكية.
الروايات التي ذكرته جميعها حقيقية، لأشخاص حقيقيين يعيشون في مصر حتى هذه اللحظة، وأحداث لم أحرفها أو أغير سياقها، إلا أنني استعملت أسماء مختلفة بناء على طلب أصحابها.
أقرء أيضا
التمييز وخطابات الكراهية .. ما بين مصر والعالم
تعرف بالفيديو هل القوانين المصرية تدعم التمييز أم تناهضة؟
No Responses to “التمييز بين الجنسيات في مصر”